ليس صدفة قرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بتعيين الشخصية الاستيطانية اليمينية المتطرفة يحيئيل لايتر سفيراً لإسرائيل لدى الولايات المتحدة، فهو يريد شخصية مقاتلة أيديولوجياً لضمان تحقيق حلمه وحلم رؤساء أحزاب ائتلاف حكومته بتعزيز الموقف الإسرائيلي باستمرار الوجود العسكري في غزة، وأيضاً الترويج لخطط استيطانية هناك، إلى جانب الهدف الأسمى وهو ضم مناطق فلسطينية في الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية.

لايتر المستوطن هو ناشط معروف من أجل الاستيطان والضم، وكان باحثاً في منتدى “كهيلت” الذي دفع قدماً بالانقلاب النظامي، وهو كاتب وباحث في معاهد ابحاث أخرى متماهية مع اليمين في إسرائيل وفي الولايات المتحدة، وبالنسبة لنتنياهو هو الأنسب لترويج سياسة حكومته أمام إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب، ليس فقط في الضفة حيث ينتظرون الضم وفرض السيادة الإسرائيلية، إنما الأكثر اهتماماً هو في غزة والخطة التي محورها إنشاء بنى تحتية لضمان إبقاء الجيش لفترة طويلة فيها، وإقامة نظام عسكري، وفي المقابل تنفيذ الخطة التي يعدها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، والمالية بتسلئيل سموتريتش للاستيطان هناك.

المشاهد التي تخرج من ممر نيتساريم في غزة، منذ فترة، بإقامة شارع واسع ومشاريع عدة من حوله بهدف توسيعه، لم تعد مقتصرة على الممر ولا المنطقة المحيطة به، إنما يمكن مشاهدتها في مناطق متباعدة وواسعة. وكشف تقرير إسرائيلي عن أن الجيش يقوم بأعمال لا تمت بصلة في قتاله بالقطاع، وهي تعكس، وفق أكثر من عسكري وسياسي، سياسة تعزيز الوجود الإسرائيلي هناك.

في كيسوفيم (متاخم لقطاع غزة) الوضع بات في مراحل أكبر وأخطر من نيتساريم، إذ تم شق شارع وأقيمت منطقة مفتوحة إلى جانبه، وهناك مزيد من المشاريع في قطاع غزة، حيث تنفذ وفق خطة أعدت بالتنسيق بين المؤسستين السياسية والعسكرية، ويقوم بتنفيذها الجيش الإسرائيلي، وهي تهدف إلى إقامة بنى تحتية تضمن وجوداً طويلاً للجيش في المنطقة، في الأقل في المرحلة الأولى من الفترة التي تلي التوصل إلى وقف نار وتنفيذ صفقة الأسرى.

ووفق أكثر من تقرير، أكده مسؤولون عسكريون إسرائيليون، تنفذ أعمال على نطاق واسع تمهيداً لتنفيذ خطة إسرائيل في غزة، وبحسب المتخصص في الشؤون الفلسطينية ينيف كوفوفتش، فإن الجيش الإسرائيلي سيطر على مناطق وطرقات طويلة في القطاع وأقام عديداً من الجيوب، ووصل الوضع، بحسبه “إلى ما كان عليه في فترة ما قبل الانفصال عن غزة في عام 2005”.

المرحلة الأولى التي ينفذها الجيش، وفق الخطة التي وضعها، تسوية مناطق واسعة في القطاع بالأرض، بتدمير المباني والبنى التحتية القائمة بصورة لا يمكن العيش فيها إلى جانب أعمال بنى تحتية عسكرية جديدة، وشق المحاور والطرق الواسعة وحتى تمهيد الأرض للسكن فيها لفترة طويلة.

ونقل كوفوفتش عن ضابط في الجيش يشارك في هذه الأعمال في قطاع غزة قوله “لقد نمنا في أماكن محمية مع مكيفات، وكل الحاجات الضرورية، حتى إن ما أقمناه هناك بمستوى أعلى من كل المواقع التي كنت فيها في الخدمة”، وبحسب الضابط نفسه، فإن الجيش يعد بنى تحتية للبقاء لفترة طويلة في غزة “هناك مطبخ للألبان وآخر للحوم، أقمنا هناك كنيساً للصلاة وغرفة عمليات. قمنا بالتجول من دون خوذات وستر واقية ولعبنا كرة القدم داخل الموقع”.

هذه الصورة المصغرة للجيش في غزة هي بداية لخطة الحكومة الإسرائيلية لإبقاء الجيش فترة طويلة، وإن لم تنجح إسرائيل في فرض الحكم العسكري في القطاع في اليوم التالي للحرب.

 

جيوب عسكرية

وتكرر جهات في المستوى السياسي وفي جهاز الأمن التأكيد أن إخلاء شمال القطاع ليس جزءاً من “خطة الجنرالات” القاضية بإخلاء سكان الشمال من أجل فرض الحصار على المنطقة ومنع المساعدات الإنسانية عنها، ولكن مصادر أمنية أكدت أن ما يتم عرضه على الجمهور الإسرائيلي ليس بالضرورة ما يحدث بالفعل. وقالت هذه المصادر، بحسب التقرير الإسرائيلي “ما هو مطلوب من الجيش الإسرائيلي الآن هو إخلاء قرى ومدن من سكانها، ومن أجل تأكيد ذلك، في المنطقة التي كان يعيش فيها، عشية الحرب، أكثر من نصف مليون فلسطيني، بقي الآن نحو 20 ألفاً وربما أقل”.

قطاع غزة، وبعيداً من جرائم القتل بالقصف الإسرائيلي المكثف وتدمير البيوت والمباني، بات مليئاً بالجيوب العسكرية. كوفوفتش الذي وافق له الجيش أن يجري جولة في القطاع كشف عن المراحل الأولية لخريطة الطريق الإسرائيلية في غزة بعد أن اتضح أن الجيش يعمل بصورة ممنهجة لتسوية المباني التي ما زالت قائمة هناك.

وللهرب من خطر تفجير البيوت، وعلى رغم اقتراب فصل الشتاء والبرد، باتت مئات العائلات الفلسطينية، في غزة، تفضل أن تعيش داخل مبان مهدومة جزئياً وآيلة للسقوط حتى لا يستهدفها الجيش الإسرائيلي ضمن خطته لإقامة البنى التحتية له، ولكن، وفق ما قال كوفوفتش فإن “هؤلاء الآن بعيدون عن الاستقرار على خلفية جهود إسرائيل لإبعادهم من هناك، أحياناً عبر إطلاق قذائف مدفعية نحو مناطق مفتوحة قريبة من المناطق التي ما زالت مأهولة. في الأشهر الأخيرة، المطلوب أن تفعله القوات على الأرض هو دفع السكان نحو الجنوب لتسوية البيوت على بعد بضعة كيلومترات من المحاور اللوجيستية ومناطق وجود القوات في أرجاء القطاع، في كل هذه المناطق يوجد بناء عسكري، إنها ليست أماكن تبنى بصورة موقتة ولأشهر عدة”، وفق ما أكد ضابط مسؤول في القطاع.

وما هو على الأرض من شق محاور وطرقات يعكس صورة بعيدة جداً من أعمال عسكرية لها علاقة بالعملية البرية التي ينفذها الجيش أو حتى اقتحامات عسكرية، بل إنها، بحسب هذا الضابط، “هدف أولي، يؤدي ضمن أمور أخرى، إلى إعادة بناء أماكن أخلي بعض المستوطنات منها”.

لا للسلطة الفلسطينية

في مقابل المشاريع التي يتم تنفيذها في غزة يعمل المستوى السياسي، برئاسة نتنياهو، على خطة إسرائيلية خاصة لليوم الذي يلي حرب غزة، ضارباً، بعرض الحائط، الضغوط الدولية والمبادرات المتعددة للتعاون في كيفية ضمان إقامة نظام يدير قطاع غزة. نتنياهو أظهر، بصورة لا تقبل التأويل، أنه يرفض أي خطة لليوم التالي لغزة وفق ما طرحت عبر أكثر من طرف، وفيها تتسلم، بعد فترة محددة، السلطة الفلسطينية مهمة إدارة الحكم في القطاع، هذا الموقف جاء لأسباب سياسية وخوفاً من حل ائتلافه من قبل وزراء حزب “عوتسما يهوديت”.

وبحسب مقربين من نتنياهو ومطلعين على سير الأبحاث في ملف غزة، فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية بات على قناعة بأن السياسة التي تتبعها إسرائيل بكل ما يتعلق بعرقلة المساعدات الإنسانية ستجعل المجتمع الدولي يتخلى عن مطلبه بأن يكون الرئيس الفلسطيني محمود عباس شريكاً في السلطة في غزة، أو أن يطلب من الجيش الإسرائيلي إقامة حكومة عسكرية في قطاع غزة، وهو ما يتماشى مع مطالب اليمين الديني في ائتلاف نتنياهو.

هؤلاء، بحسب تصريحاتهم وتهديداتهم يريدون فرض نظام عسكري في غزة بما يمكن له أن يصبح لاحقاً أساساً لتجديد المشروع الاستيطاني اليهودي في القطاع.

حالياً، وفي غياب أفق قريب لصفقة أسرى أو اتفاق لوقف النار وغياب إدارة بديلة لحركة “حماس” في غزة، يواصل الجيش بناء الممرات وإقامة الجيوب العسكرية في وقت يعد فيه وزراء أحزاب اليمين المتطرف، وفي مقدمهم، وزيراً المالية والأمن القومي، الخطط لمشاريع استيطانية، تشكل الأعمال التي يقوم بها الجيش اليوم، بنى تحتية وأساساً لهذا المخطط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *