بعد أكثر من 20 شهرًا من اندلاع الحرب التي ما زالت تفتك بقطاع غزة، تتزايد التساؤلات حول المنطلقات السياسية والعقائدية التي دفعت نحو هذه المواجهة الكارثية. في قلب تلك المعادلة يقف اسم الراحل يحيى السنوار، القائد السابق لحركة حماس في غزة، الذي قاد القطاع نحو أخطر مواجهة في تاريخه، بناءً على رؤية استراتيجية خاطئة، ورهان مشبع بالعاطفة على تحالفات إقليمية لم تصمد أمام اختبار الواقع.

لطالما نظر السنوار إلى محور طهران — المتمثل بإيران، حزب الله، وبعض فصائل المقاومة في العراق واليمن — كركيزة أساسية في ميزان الردع ضد إسرائيل. وقد بنى استراتيجيته على افتراض أن اشتعال الحرب في غزة سيُجبر هذا المحور على التدخل المباشر، أو على الأقل فتح جبهات موازية لتشتيت الجهد الإسرائيلي.

لكن الواقع أتى معاكسًا تمامًا لتلك التقديرات. فالمحور اكتفى بخطابات دعم وتصريحات تنديد، دون أي تحرك ميداني حاسم. حتى الجبهة اللبنانية، التي لطالما وُصفت بأنها الأكثر سخونة، بدأت تصعيداً مع إسرائيل ثم وقعت اتفاق وقف إطلاق نار وتخلت عن غزة ، بما لا يؤدي إلى انفجار إقليمي واسع، الأمر الذي كشف بوضوح محدودية التزام هذا المحور تجاه غزة، رغم كل الشعارات.

الراحل السنوار كان يمتلك حنكة تنظيمية وقدرة على إدارة الأزمات داخليًا، لكن قراءته للمشهد الإقليمي والدولي اتسمت بالقصور. تجاهل التغيرات التي طرأت على أولويات الدول العربية بعد موجات التطبيع، وتجاهل الإرهاق الدولي من القضية الفلسطينية في ظل تحولات جيواستراتيجية كبرى. وبدلًا من التركيز على انتشال قطاع غزة من حالة الاقتصاد المهترئ وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين٬  اتجه نحو التصعيد كوسيلة لفرض وقائع جديدة، دون تأمين الحماية اللازمة لغزة وسكانها.

لم تحقق هذه الحرب أيًا من أهدافها المعلنة. الحصار لم يُكسر، والمجتمع الدولي لم يتحرك لصالح القضية، بل إن الاحتلال وجد في طول أمد الحرب فرصة للتمادي في سياسة الأرض المحروقة، وسط صمت عالمي وتواطؤ مكشوف. آلاف الغارات، مئات المجازر، وعشرات آلاف الضحايا، غالبيتهم من الأطفال والنساء، تلاها تدمير ممنهج للبنية التحتية، والمرافق الحيوية، ومخيمات اللاجئين.

أصبح القطاع غير صالح للعيش، وفق تقارير دولية، بينما ارتفعت نسب الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وسط غياب الأفق السياسي والإنساني. والأسوأ أن الحرب لا تزال مستمرة، بلا نهاية تلوح في الأفق، وبلا قيادة واضحة تتولى إعادة رسم ملامح المرحلة القادمة.

تكشف هذه التجربة المؤلمة أن المغامرة العسكرية دون غطاء سياسي أو ضمانات إقليمية، تُعد ضربًا من المقامرة بمصير شعبٍ بأكمله. لقد رحل السنوار تاركًا وراءه إرثًا متناقضًا: مقاومة شرسة، لكنها محاصرة؛ بطولة ميدانية، لكنها بلا مشروع وطني شامل؛ ودولة محتلة، أصبحت أكثر عزلة وضعفًا مما كانت عليه.

إن أبرز دروس هذه الحرب أن وحدة الصف الفلسطيني، والاعتماد على الشرعية الوطنية، والتخلي عن الارتهان لمحاور إقليمية لا تضع فلسطين على رأس أولوياتها، هو السبيل الوحيد لمواجهة الاحتلال بشكل فعّال، وحماية ما تبقى من غزة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *