اعتبرت شركة “سيمنز إنرجي” للخدمات في مجال الطاقة أن تبرير شركة الغاز الروسيةالعملاقة “غازبروم” لوقف إمدادات الغاز الطبيعي عبر خط “نورد ستريم 1″، غير منطقية، وذلك في تعزيز لاعتبار الأوروبيين أن قطع الغاز عبر هذا الخط لأجل غير مسمى، هو قرار سياسي لمعاقبة أوروبا، رداً على مناقشة وزراء مالية دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى اقتراح فرض سقف سعر على مبيعات النفط الروسي.

وأعلنت الشركة الروسية أنها لن تعيد ضخ الغاز في خط الأنابيب الذي يمر تحت مياه بحر البلطيق إلى ألمانيا، نتيجة حدوث تسرب فيه. كان من المفترض أن يعود الضخ في الساعات الأولى من صباح السبت بعد توقفه لثلاثة أيام نتيجة عملية صيانة طارئة. وفي يوليو (تموز) الماضي، توقف الضخ عبر الخط الشمالي هذا لمدة 10 أيام نتيجة عملية صيانة مجدولة سابقاً. ووقتها قالت “غازبروم” إن خمس توربينات من بين ثماني توربينات تشغل الخط، بحاجة إلى صيانة وإصلاح وربما استبدال.

وعللت الشركة الروسية وقتها بأن العقوبات الغربية تحول دون صيانة وإصلاح التوربينات. واضطرت كندا إلى رفع استثنائي مؤقت للعقوبات كي تتمكن “سيمنز إنرجي” من نقل إحدى التوربينات من كندا، لكن تسليمه تعرقل في أوروبا نتيجة قيود العقوبات. وتقول “سيمنز”، إنها أوفت بتعهداتها، لكن الشركة الروسية ترى أن التوربينات الأربعة الأخرى ما زالت مشكلة بسبب العقوبات الغربية والأوروبية على موسكو، المفروضة منذ بداية الحرب في أوكرانيا.

سقف سعر النفط

يشكل إعلان “غازبروم” وقف ضخ الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر خط “نورد ستريم 1” لأجل غير مسمى حتى الانتهاء من الصيانة والإصلاحات، خطوة حاسمة في إطار حرب الطاقة بين روسيا والغرب الموازية للحرب في أوكرانيا، كما تأتي في وقت يتحدث فيه الإعلام الغربي عن هجوم أوكراني مضاد على القوات الروسية يستفيد من الدعم الغربي والسلاح، الذي أمدت به أميركا وأوروبا أوكرانيا.

لكن العامل الحاسم في تلك الخطوة، كان اتفاق وزراء مالية دول مجموعة السبع على الاقتراح الأميركي، المدعوم من بريطانيا، بالعمل باتجاه فرض سقف سعر على النفط الروسي لحرمان موسكو من عائدات مبيعات النفط، التي تزداد على الرغم من العقوبات، وفي الوقت نفسه استمرار تدفق النفط الروسي للسوق العالمية.

ومنذ طرح هذا المقترح، هناك شبه إجماع في سوق الطاقة العالمية على أن تطبيقه ليس ممكناً لأسباب عدة. أولها، أنه يتطلب انصياع روسيا لسقف السعر هذا. وكررت روسيا الإعلان عن أنها لن تقبل بذلك، وجددت موقفها، الجمعة، بتأكيد أنها لن تبيع نفطها لأي دولة تلتزم بسقف السعر في حال تطبيقه.

وثانيها، أن تطبيق سقف السعر بشكل فعال، الذي يحرم روسيا من العائدات السخية لمبيعاتها النفطية، يحتاج إلى التزام أغلب دول العالم المستوردة للنفط الروسي بما تقرره أميركا وبريطانيا والغرب. وبالنظر لأن محاولة استصدار قرار بإدانة روسيا بسبب حرب أوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة أظهر أن نصف العالم على الأقل لا يوافق على الموقف الأميركي والغربي، فإن شرط فاعلية سقف السعر قد لا يتوفر.

هناك أيضاً عوامل أخرى كثيرة تجعل تطبيق سقف السعر، في حال الاتفاق عليه بين الدول الغربية الرئيسة، في غاية الصعوبة. أولاً من ناحية آلية المراقبة والتدقيق حتى في حال التزام أغلب دول العالم به، كما أنه سيفتح الباب للالتفاف على تلك العقوبات، إما بالتهريب أو بالصفقات الثنائية بين روسيا والدول التي لا تتخذ موقفاً مناوئاً منها مثل الصين والهند وغيرها.

وفي النهاية، لا يستطيع العالم تحمل فقدان ما يزيد على سبعة ملايين برميل يومياً، هي صادرات روسيا النفطية، إذ إن ذلك قد يدفع بأسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة من الارتفاع. ليس هذا فحسب، بل إن أزمة طاقة عالمية حادة قد تؤدي إلى دخول الاقتصاد العالمي في كساد، ربما أشد عمقاً وقسوة مما شهده قبل قرن.

لذا، يبدو حتى الآن أن فرض سقف سعر على مبيعات النفط الروسي بهدف خنق روسيا مع استمرار انسياب نفطها لدعم الاقتصاد العالمي، أمر صعب التحقيق على الأقل، إن لم يكن أقرب لغير الممكن. حتى على الرغم من أن روسيا لم يمكنها الاستمرار من دون عائدات مبيعات الطاقة، التي تشكل أكبر مصادر الدخل القومي للحكومة في الكرملين.

 

إمدادات الغاز

وعلى الرغم من تقديرات وكالة الطاقة الدولية بأن أوروبا خفضت اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي بنسبة تصل إلى 75 في المئة، فإن القارة العجوز ما زالت تعد على ذلك الغاز، ولم تتمكن بعد من تعويضه من مصادر أخرى. لا تتوفر أرقام دقيقة عن حجم الاستيراد، لكن الأكثر ترجيحاً أن انخفاض الغاز، سواء بسبب عدم تعاقد الأوروبيين مع “غازبروم” أو نتيجة ضغط روسيا على أوروبا بوقف الإمدادات بين الحين والآخر، لا يزيد على النصف.

ومع أن دولاً أوروبية زادت من وارداتها من الغاز الطبيعي المسال، الأعلى سعراً بكثير عن الغاز الطبيعي الذي يضخ عبر خطوط الأنابيب، فإن وارداتها من الولايات المتحدة ودول في الشرق الأوسط لا تكفي لتعويض إلا قدر ضئيل من الغاز الروسي.

حتى العام الماضي، كانت أوروبا تستورد ما يقارب نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا (نسبة 45 في المئة)، وبمعدلات تزيد على 132 مليار متر مكعب من الغاز. وتمر النسبة الأكبر من تلك الواردات عبر خطوط أنابيب تربط حقول الغاز في روسيا بأوروبا، تصل إلى نحو 12 خطاً. إضافة إلى نسبة بسيطة من الشحنات للغاز الطبيعي المسال بناقلات في البحر.

ومن بين خطوط الأنابيب تلك، هناك ثلاثة خطوط رئيسة هي خط “ترانس غاز”، الذي يمر عبر أراضي أوكرانيا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك، وينقل أكثر من 100 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي الروسي يومياً إلى أوروبا. أما خط الأنابيب البري الثاني فهو خط “يامال – يوروبا”، الذي يمر عبر بيلاروس وبولندا إلى ألمانيا، هذا إضافة لخط أنابيب الغاز البحري “نورد ستريم 1” من روسيا إلى ألمانيا مباشرة تحت مياه بحر البلطيق. وكان يفترض أن تزيد سعة الخطوط بتشغيل خط الأنابيب البحري الجديد “نورد ستريم 2″، الذي توقف تشغيله بسبب الحرب في أوكرانيا والعقوبات التي فرضت على موسكو.

فصل الشتاء

ما زالت تلك الخطوط الأخرى تعمل، وإن لم تكن بطاقة سعتها القصوى. وهذا ما ساعد على تضاعف أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا وبريطانيا بما بين أربعة وستة أضعاف في الأشهر الأخيرة. ومع قرب دخول فصل الشتاء في نصف الكرة الشمالي، وزيادة الطلب على الغاز والنفط للتدفئة وتوليد الطاقة الكهربائية لتلبية الاحتياجات الموسمية، يمكن أن يكون تأثير القرار الروسي بوقف الإمدادات عبر خط “نورد ستريم 1” أكثر ضرراً بخاصة في أوروبا.

حتى الآن، زادت الولايات المتحدة صادراتها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا لتصل إلى 15 مليار متر مكعب. وفي حال تمكنت أوروبا من الحصول على القدر الأكبر من الغاز الطبيعي المسال، الذي كان يتوجه أغلبه إلى آسيا، فإن ما يتوفر هو في حدود سبعة مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي القطري كسعة إنتاج إضافية ونحو أربعة مليارات متر مكعب من الجزائر ومصر وغيرهما. ولا تشكل كل تلك السعة الإضافية سوى نحو ثلث واردات أوروبا من الغاز الطبيعي الروسي.

يذكر أيضاً أن ثاني أهم مصدر للغاز الطبيعي لأوروبا بعد روسيا، وهو من إنتاج النرويج، وصل إلى طاقته القصوى أخيراً. ولم تعد النرويج قادرة على زيادة الإمدادات لبقية الدول الأوروبية وبريطانيا أكثر من الوضع الحالي، الذي يعد أعلى مستوى منذ خمس سنوات. ووصلت إمدادات الغاز الطبيعي النرويجي في أغسطس (آب) الماضي إلى 9.5 مليار متر مكعب، أي بمعدل 306 ملايين قدم مكعب يومياً.

وتحتاج أوروبا، فضلاً عن الزيادة الموسمية في فصل الشتاء، إلى ملء مخزوناتها من الغاز الطبيعي التي استنفدت أكثر من نصفها في الأشهر الماضية. وكانت المفوضية الأوروبية أصدرت قراراً بضرورة ملء تلك المخزونات في دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 90 في المئة قبل نهاية شهر سبتمبر (أيلول) الحالي على الأقل، لتفادي أزمة في فصل الشتاء تعني انقطاع الكهرباء وربما تتسبب في وفيات نتيجة عدم توفر التدفئة.

وفي حال استمرار حرب الطاقة ولجوء روسيا إلى وقف المزيد من الإمدادات إلى أوروبا، لن تتمكن كثير من الدول الأوروبية من ملء مخزوناتها، بالتالي ستواجه صعوبة في توفير احتياجات فصل الشتاء، فضلاً عن أن المتوفر حتى في السوق الفورية العالمية من غاز طبيعي مسال عالي التكلفة، لن يكون كافياً لتعويض الغاز الروسي المتوقف.

لكن الضرر لن يكون على أوروبا فقط، بل أيضاً على الاقتصادات الآسيوية التي ستفقد نصيباً من الغاز المحمول على الناقلات، والذي سيتوجه إلى أوروبا بدلاً من آسيا. هناك ضرر كبير أيضاً على الاقتصاد الروسي، الذي سيعني وقف صادرات الطاقة إلى حرمانه من قدر كبير من الدخل القومي، ما سيزيد من الصعوبات الجمة التي يواجهها نتيجة العقوبات الأخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *