سلطت مجلة ‘ذا أتلانتيك’ الضوء على الوضع المزري في لبنان الذي وصفته بـ”أمة ممزقة” بسبب الأزمة الاقتصادية والحرب الدائرة في جنوبه، حيث يتضاءل نفوذ حزب الله ويهجر السكان المنطقة، بينما يتجادل الناس في ما بينهم حول الأمة التي سيكون عليها لبنان بعد الحرب.

في نهاية شهر سبتمبر/أيلول وبعد أيام قليلة من اغتيال زعيم حزب الله حسن نصرالله في غارة جوية على معقل المنظمة في جنوب بيروت، التقى مراسل مجلة “ذا أتلانتيك” بمؤيد لحزب الله في مقهى على شاطئ البحر في غرب بيروت.

وقال الرجل وهو أكاديمي ذو لحية بيضاء خفيفة ومظهر مرهق لشخص لم ينم منذ أيام، على علاقة عميقة وطويلة الأمد بحزب الله إن الحزب “لم يواجه قط ما تقوم به إسرائيل الآن، لا في عام 1982، ولا في عام 2006. هذه حرب شاملة”.

وعندما سئل عن احتمال توقف إيران عن دعمها للحزب، أجاب بعد صمت متوتر “هناك أسئلة”، مضيفا “هل الأمر أشبه بتربية ابن يبلغ من العمر الآن 42 عاما وتتخلى عنه؟ لا. هذا غير منطقي”.

وقال إن المقاتلين على الحدود مستعدون وأن الجنود الإسرائيليين سيحفرون قبورهم بأيديهم وسيتوسلون لوقف إطلاق النار قريبا، لكن بعد ذلك، أبطأ الرجل من حديثه، كما يصف المراسل.

وذكر أحمد الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي قال عشية حرب الأيام الستة إن اليهود الذين سيبقون على قيد الحياة سيبقون في فلسطين، لكنه قدر أن لا أحد منهم سيبقى على قيد الحياة.

وتابع الرجل المقرب من حزب الله “لا أريد أن أكون مثله”.. استغرق الأمر لحظة لفهم القياس التاريخي: لقد كان يعني ضمنا أن الحركة التي كرس نفسه لها قد تواجه الدمار الكامل، مضيفا “هذا الشاي الذي نشربه، لا نعرف ما إذا كان سيكون الأخير”.

وفي مقال شامل نشر في مجلة “ذا أتلانتيك”، يرسم المراسل روبرت وورث صورة لبلد مجزأ وربما يكون من الأمور التي يرغب الإسرائيليون في سماعها ـ أن حزب الله وإيران يفقدان سيطرتهما عليه. ويحمل عنوان المقال اقتباسا عن “نهاية العصر الإيراني”، فيما يلي أبرز ما جاء فيه:

نفد الوقود، لذا واصلوا السير على الأقدام

إن حزب الله ليس مجرد ميليشيا، كما يكتب وورث فهو بمثابة دولة داخل الدولة، أقوى من الحكومة اللبنانية الضعيفة المنقسمة وأقوى بالتأكيد من الجيش اللبناني. ولا تهرب المنظمة الأسلحة فحسب، بل تهرب أيضا مليارات الدولارات من إيران. وهي تدير البنوك والمستشفيات ونظام الرعاية الاجتماعية واقتصادا موازيا من الواردات المعفاة من الرسوم الجمركية وتجارة المخدرات التي أثرت وعززت من مكانة الطائفة الشيعية التي كانت محرومة في السابق.

إن الطريق إلى صور يكشف عن عمق الأزمة، وفقا للمقال المنشور في مجلة “ذا أتلانتيك”، فالطريق الساحلي الذي يعج عادة بحركة المرور، أصبح خاليا تقريبا. ويتجاوز السائق سرعة 87 ميلا في الساعة. وعلى جانبي الطريق، يمكن رؤية الدخان الناجم عن تفجيرات الليلة السابقة.

وتلوح أعلام حزب الله الصفراء في مهب الريح إلى جانب لوحات إعلانية جديدة تحمل صور “الشهداء” تحمل نقشا “نصر الله” ـ وهي تلاعب بالألفاظ باللغة العربية على اسم زعيم حزب الله المقتول والذي يعني نصر من الله. وعلى جانب الطريق الشمالي، توجد عشرات السيارات المهجورة ـ التي تركتها وراءها أسر فرت من الجنوب ونفد وقودها، وواصلت السير على الأقدام.

ويصف المراسل مدينة صور التي تعج بالحركة عادة، بأنها مدينة أشباح. وقد تحول فندق “ريست هاوس”، وهو مجمع سياحي مسيج، إلى ملاذ آمن للاجئين والصحافيين. ومن شرفته الواسعة المطلة على شاطئ خلاب، يمكن للمرء أن يرى إطلاق صواريخ حزب الله. ويقول أحد الصحافيين العرب “يحدث هذا كثيرا. هكذا هي الحال في الحرب. تعتاد على الأمر حتى تتغير الافتراضات وتسقط الصواريخ عليك”.

وفي مدينة صيدا، أسفرت غارة على مبنى سكني عن مقتل 45 شخصا على الأقل، وفقا لوزارة الصحة اللبنانية. ويشير المقال إلى أن إسرائيل أعلنت أنها قتلت قائدا محليا لحزب الله ومعه نشطاء.

وكان محمد أحمد جرادي(31 عاما) من بين أول من وصلوا إلى مكان الحادث. وقال “سمعت صراخ الناس تحت الأنقاض. رأيت عمتي عندما أنقذوها. كانت أجزاؤها الداخلية بالخارج، ورأسها مهشم. هذه آخر صورة لي لها”.

وتروي ليال كيف يتلقى العديد من السكان مكالمات هاتفية من إسرائيليين يطالبونهم بإخلاء منازلهم. ويتابع الكثيرون حساب أفيخاي أدرعي المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية على منصة إكس الذي ينشر تحذيرات بشأن الهجمات القادمة.

وتلقت غدير جارة ليال، مكالمة من شخص يتحدث العربية بلكنة فلسطينية وكان يعرف كل تفاصيلها الشخصية. وعندما أخلت شقتها، تم قصف المبنى في تلك الليلة.

الأزمة الاقتصادية هي فرصة للمخابرات الإسرائيلية

وفي محاولة لتحسين صورته، نظم حزب الله جولة لنحو 300 صحفي في المناطق المدمرة في الضاحية الجنوبية، معقله في بيروت الجنوبية. ويصف المراسل كيف ألقى ممثل حزب الله في كل موقع قصف خطابا عن المدنيين الأبرياء الذين قتلوا، بينما كان الصحفيون يتزاحمون لتصوير الأنقاض التي يتصاعد منها الدخان.

وتروي مراسلة قصة حمودي وهو شيعي يبلغ من العمر 25 عاما وكان منتجا سينمائيا علمانيا ناجحا في بيروت. وتقول شقيقته “لم يكن يصلي. كانت أمي تقول لي: لن تكون شهيدا إذا لم تصلي”.

كان حمودي يحب النساء والموسيقى والحفلات وكان يعيش في منطقة الحمرا العلمانية بدلا من معقل حزب الله في الضاحية. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، قرر الانضمام إلى صفوف المسلحين. وبعد يوم واحد من تصويره لشريط فيديو “شهيد”، قُتل في قصف إسرائيلي. وتقول شقيقته وهي تبكي “كان صديقي وأخي وصندوق أسراري”. وبدلا من الوعد بالانتقام، تضيف “أنا أفكر في مغادرة البلاد”.

وأوضح أشرف ريفي رئيس الأجهزة الأمنية اللبنانية السابق لمجلة “ذا أتلانتيك” كيف نجحت إسرائيل في اختراق صفوف حزب الله. وبحسب قوله، فإن تورط المنظمة في الحرب السورية جعل المقاتلين عُرضة للاستخبارات الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك، جعلت الأزمة الاقتصادية في لبنان العديد منهم عُرضة للتجنيد كمتعاونين. وفي 17 سبتمبر/أيلول، نُفذت عملية لتفجير آلاف أجهزة البيجر التي بيعت عن طريق الخداع.

ووصف طبيب في أحد المستشفيات الكبرى حالة الفوضى التي سادت ذلك اليوم، حيث كان العشرات من الشباب في المستشفى دون تسجيل أسمائهم ــ وكلهم تحت اسم “جورج”، وهو اسم مسيحي نموذجي. وقدر ريفي أن نحو 20 بالمئة من قادة حزب الله من المستوى المتوسط ​​والمستوى الأعلى قتلوا في العمليات الإسرائيلية. وقال “أعتقد أن العصر الإيراني انتهى في لبنان وسوريا والعراق واليمن”.

الإيمان في لبنان

وفي طرابلس وفي مطعم “كروب” العصري، وصف المراسل نقاشا محتدما حول مستقبل البلاد. وقال أحد المسؤولين المحليين في البلدية “لا أرى أحدا يؤمن بدولة تسمى لبنان. أرى المسيحيين والسنة والشيعة والدروز مخلصين لطائفتهم أو حزبهم. لا يوجد أي مصلحة عامة”، لكن المؤرخ الشاب شارل الحايك أبدى معارضته الشديدة لهذا الرأي. وقال إن لبنان يتمتع بخصائص فريدة تميزه عن البلدان العربية الأخرى: تقاليد التنوع الديني، والديمقراطية والتعليم العالي والحريات الشخصية والعامة.

وفي مقاله، حذر ضابط كبير سابق في الجيش اللبناني، مقرب من رئيس الأركان جوزيف عون، من أن “إيران وحدها قادرة على نزع سلاح حزب الله”. وبحسب قوله، ورغم الضربة الشديدة، لا يزال حزب الله يمتلك قوة قتالية كبيرة في الجنوب قادرة على العمل بشكل مستقل.

وأضاف “لكن مع مرور الوقت، سيشعر حزب الله بنقص الأموال. وستكون هذه هي المشكلة الأكبر. وعندما يعود الشيعة إلى الجنوب، من سيعيد البناء؟”.

في الليل، ومن فوق سطح أحد الفنادق في بيروت، يصف مراسل المجلة الأميركية اندلاع ألسنة اللهب البرتقالية من الضواحي الجنوبية للمدينة في أعقاب غارة جوية، قائلا “يبدو الأمر وكأنه ثوران بركاني”. ويصور مجموعة من الشباب اللبنانيين على طاولة قريبة المشهد على هواتفهم المحمولة ثم يعودون إلى احتساء الكوكتيلات.

وفي الوقت نفسه، نزح نحو ربع سكان لبنان. وفي مطار بيروت، كتب وورث أنه رأى أشخاصا ينامون في الخارج على أمل الحصول على تذكرة لرحلة إلى الخارج. كما أوقفت شركات الطيران الأجنبية رحلاتها وفر أكثر من 300 ألف لاجئ سوري إلى سوريا ــ وهو ما يشكل دليلا على عمق الخوف السائد في البلاد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *