طارق فهمي| كاتب وأكاديمي
تسعى إسرائيل في الوقت الراهن لبناء خطة جديدة في التعامل مع “حركة حماس” في قطاع غزة، والبناء على ما تم في المواجهة الأخيرة التي لم تشارك فيها “حماس” لاعتبارات داخلية متعلقة بمصالح الحركة ومخططها ومسعاها للاستمرار في حالة التهدئة، وهو ما تم تقييمه في إسرائيل على أنه “استراتيجية منضبطة”، وتعمل في اتجاه الحفاظ على المصالح الاستراتيجية مع إسرائيل، وعدم الوقوع في خسائر حقيقية قد تكلف الحركة كثيراً من التبعات، وهو ما برز في “السلوك الرشيد” على حد تقييمات “الشاباك”. وشاركتها في هذا بقية أجهزة المعلومات المراقبة التي ترى أن الحركة باتت مسؤولة بالفعل عن إدارة ملف الأمن في القطاع، وأنها تديره في مواجهة الجميع حتى ولو دخلت في مناكفات سياسية أو أمنية قد تكون مكلفة لها، بما في ذلك “حركة الجهاد الإسلامي“، التي تعيد ترتيب أوراقها الداخلية وحساباتها مع محاولة نقل رسائل سياسية للشركاء بالتهدئة، وعدم التصعيد على الرغم مما يجري إعلامياً وسياسياً ويرتبط بمواقف مستجدة.
اتفاق مشترك
يتفق المستويان السياسي والأمني في إسرائيل في الوقت الراهن على أن “حركة حماس” باتت شريكاً حقيقياً، وهو ما سيساعد على الانتقال إلى مرحلة أخرى من التعاملات تتجاوز منح التسهيلات أو فتح المعابر، والسماح بالعمالة الفلسطينية القادمة من غزة بالتحرك إلى الداخل الإسرائيلي، إلى استراتيجية أكثر وضوحاً وشمولاً وتقديم قائمة تحفيزية يحتاجها القطاع بالفعل مع محاولة الفصل بين حركة “حماس” وسائر الفصائل الفلسطينية الأخرى، التي لا تزال ترفع “لواء المواجهة” وتريد الاستمرار في “المقاومة ومنازلة إسرائيل”، وهو ما سيتطلب استراتيجية مختلفة. وترى الدوائر الاستخبارية أن فصل “حماس” عن الفصائل الفلسطينية ليس سهلاً ولن يكون ميسوراً في المدى القصير، في ظل مواقف “حركة الجهاد الفلسطيني”، الأمر الذي سيحتاج إلى جهد والعمل على خطة ممنهجة والانتقال من التكتيكي إلى الاستراتيجي، وهو أمر سيتطلب دفع تكلفة تقدمها إسرائيل. وهناك قناعات إسرائيلية حقيقية تتجه إلى ضرورة اتباع استراتيجية حذرة، خصوصاً أن “حماس” لديها حساباتها الجديدة التي ستتعامل بها مع عدم الوقوع في خطأ المتعاون مع إسرائيل على أرضية واحدة، وأن المصالح تلاقت في سياق واحد، وأن الأمر بات مطمئناً في ظل تكدس السلاح الموجود في أيدي الفصائل الأخرى، وهو ما قد يدفع إلى القلق على أي تنازلات قد تقدم عليها إسرائيل في الوقت الراهن لحركة “حماس”، إلى حين مراجعة مجمل السياسات والعمل في الاتجاهين، سواء تجاه الفصائل أو في اتجاه “حماس”، الأمر الذي يؤكد على أن أي مقاربة ستحكمها معايير وضوابط مهمة في الوقت نفسه.
صراع أولويات
تتحدث الحكومة الإسرائيلية (وهي حكومة مؤقتة) لحين إجراء الانتخابات التشريعية، عن إجراءات وتدابير حقيقية يمكن التعامل معها في إطار جس النبض المقترح، والممكن أن يعمل في أكثر من اتجاه لا سيما وأن محاولات ترضية حركة “حماس” تتم في إطار الحرص على تعويم دور الحركة في القطاع، مع التأكيد على أن هناك حالة من التجاذبات تتم في الوقت الراهن داخل الحركة نتيجة استمرار الخلافات على الأولويات، والمهمات الراهنة داخل المكتب السياسي وفي المستوى العسكري، وهو ما خرج على الملأ وارتبط ببعض القيادات الكبيرة في المكتب السياسي. وعلى الرغم من إنكار هذا واستبعاده، إلا أن الأوضاع داخل “حماس” غير مستقرة، وتحتاج إلى وقت لتهدئة المشهد الراهن في ظل الموقف المستجد لـلحركة، واتجاهات علاقاتها مع الفصائل الفلسطينية كلها، وليس “حركة الجهاد الإسلامي” فقط. وهذا ما يؤكد أن الأمر سيحتاج إلى مراجعات عدة في الفترة المقبلة، حتى لو استقرت الأوضاع داخل القطاع وبدأت مرحلة جني الثمار من الحركة في ظل هذا الوضع الجديد تحديداً، وأنه لا توجد مصلحة حقيقية في توتير الأوضاع والدخول في مواجهة جديدة في هذا التوقيت، إذ حيث تحتاج إسرائيل إلى استقرار موقت وعدم إفساح المجال أمام الحكومة الموقتة لاتهامها من المعارضة الإسرائيلية، ومن شخص رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو، بأنها تعمل على استثمار الموقف الراهن لأهداف انتخابية بحتة، ما قد يؤثر بالفعل على شعبية رئيس الوزراء الإسرائيلي الراهن يائير لبيد. ومن ثم فإن البدائل والخيارات التي تملكها “حماس” ستمضي في إطار تصويب المسارات والبناء على الاتجاهات الحالية، والعمل وفقاً لاستراتيجية مصلحية بحتة، على الرغم من التأكيد على أن الحركة تواجه انقساماً بدليل ما تردد، وكذب على وجه السرعة، بشأن استقالة محمود الزهار، أحد مؤسسي الحركة، من قيادتها السياسية في قطاع غزة، مع التأكيد على أن الزهار لا يزال يؤدي واجباته في المكتب السياسي كنموذج لما يجري.
قائمة تحفيزية
وستحصل “حماس” على قوائم تحفيزية حقيقية من الجانب الإسرائيلي، والانتقال من سياسة الحصول على التسهيلات للعمل إلى خطة رفع الحصار التدريجي والمرحلي وعدم الاصطدام بالموقف الإسرائيلي، ولهذا ستعمل على دفع الشركاء في مصر وقطر لتسهيل الإمدادات وتقديم مزيد من الإجراءات، الأمر الذي يعني أن المصالح المباشرة هي من ستحكم المشهد الراهن بين “حماس” وإسرائيل والأطراف الوسيطة، وإلا فإن “حركة حماس” لن تضحي بما وصلت إليه من تقييمات سياسية مقابل إجراءات مكررة تخلو من ضمانات حقيقية، وفي ظل موقف إسرائيلي مرتبك وغير قادر على الحسم والتعامل المباشر، والانطلاق وفق سياسات واستراتيجيات حقيقية ومكملة لما هو مطروح من إجراءات عملية، قد تمهد الأجواء للعمل على أسس، خصوصاً وأن إسرائيل مستمرة في مراقبة المشهد الراهن داخل القطاع، ولا تريد إلا استمرار الموقف الراهن والعمل وفق مساره السياسي والأمني، على اعتبار أن استمرار الانقسام بين القطاع والضفة جزء من كل ذلك، ويخدم المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية في المديين المتوسط والطويل الأجل.
ومن ثم فإن إسرائيل، وهي تخطط للتعامل الراهن مع “حماس”، تضع في تقديراتها قراءتها الواعية لما يجري في رام الله، وتتخوف من أية ارتدادات للسياسة الإسرائيلية الراهنة في القطاع واحتمالات تأثيرها في ما قد يطرح، لا سيما وأن المخاوف الإسرائيلية ما تزال قائمة من دخول رام الله ونابلس وجنين على خط المواجهات لما يجري في القدس يومياً، القابل للاشتعال في أي وقت.
دعم إسرائيل
وأعلنت الإدارة المدنية في تل أبيب أن نحو ربع مليون فلسطيني من سكان قطاع غزة، بينهم نسبة عالية من النساء، تقدموا بطلبات للعمل في إسرائيل، وكانت الحكومة الإسرائيلية قد قررت رفع عدد التصاريح إلى 120 ألفاً في الضفة الغربية، و20 ألفاً في قطاع غزة، ولكن عدد التصاريح الفعلي الذي خصص لقطاع غزة حتى اليوم هو 14 ألف تصريح فقط. وستقبل إسرائيل إصدار تصريح واحد من كل عشرة إلى 15 طلباً في قطاع غزة بسبب المحاذير الأمنية. فالعامل في إسرائيل يعود إلى غزة براتب يصل إلى 7000 شيكل بينما لا يزيد الراتب في داخل غزة على 1300 شيكل.
المعلوم أن 14 ألف عامل يدخلون إسرائيل حالياً، يتقاضون ما لا يقل عن 7 آلاف شيكل شهرياً، أي ستة أضعاف متوسط الأجر الشهري في غزة. وهناك زيادة بنسبة 311 في المئة في حجم التحركات عبر حاجز بيت حانون بواقع 672 ألف مرة، كما شهد معبر كرم أبو سالم التجاري زيادة بنسبة 27 في المئة في حجم الصادرات.
ومن ثم، فإن الرهانات الإسرائيلية ستظل تعمل في دوائر محددة تجمع الأمني والسياسي والاستخباراتي، مع الحذر من أية خطوات من قطاع غزة أو الضفة قد تؤثر في ما هو مطروح إسرائيلياً، وقد يكون له تبعاته على الأمن الإسرائيلي، وفي توقيتات حرجة متعلقة بخطوة إجراء الانتخابات والتخوف من أي خيار تصادمي بالفعل قد يؤثر في المشهد الراهن، ما يمكن أن يلقي بتبعاته على ما سيجري من خيارات حقيقية، واحتمالات التصعيد الهيكلي الذي يمكن أن يعصف بالاستقرار الأمني الراهن في أي وقت، لا سيما وأن هناك متربصين بالمشهد الحالي من داخل القطاع، وفي إسرائيل ذاتها وهو ما يمكن أن يكون له تداعياته الحقيقية، الأمر الذي يتطلب موقفاً مباشراً ومهماً يمكن البناء عليه في الفترة المقبلة بالنسبة إلى الطرفين سواء “حماس” أو إسرائيل.
المؤكد أن المشهد غير المستقر قد يؤدي إلى سيناريوهات قد توتر الأوضاع، وتكون لها تأثيراتها المهمة وغير القابلة للتحديد، ما سيتطلب من “حماس” استمرار العمل وفق استراتيجية متنوعة تجمع بين المنافع المشتركة، والفوائد المتبادلة التي يتحرك من خلالها كل الأطراف ولا تتوقف عند “حماس” أو إسرائيل فقط، بل تمتد لبقية أطراف المعادلة المعقدة إقليمياً، التي قد تحتاج إلى ضوابط تشمل كل الأطراف المعنية.
الخلاصة
إن “حماس” تعمل على هدف رئيس يتمثل في الحفاظ على الهدوء في القطاع أطول فترة ممكنة، مقابل دفع التصعيد في الضفة الغربية. وهذه السياسة شبيهة إلى حد ما بسياسة التمييز الإسرائيلية التي انتهجتها تل أبيب ضد القطاع، منذ سيطرتها عليه في 2007. كما تعتزم إسرائيل الإعلان عن خطوات اقتصادية تجاه القطاع، بما يشمل السفر جواً خارج غزة عبر مطار إسرائيلي. ويوجد رهان إسرائيلي على أن التحسن الاقتصادي والمشاريع المدنية، سيساعدان في جلب هدوء طويل الأمد، باعتبار أن “حماس “المسؤولة عن حياة السكان هناك ستفضل اختيار السلام لفترة طويلة على الحرب، بل والبدء في تبني إجراءات حقيقية وربما ستقبل بعد قبول المستوى العسكري، برفع تدريجي للحصار عن القطاع، وسيكون هذا التوجه مطروحاً مع تولي الحكومة الإسرائيلية الجديدة بعد إجراء الانتخابات البرلمانية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، بصرف النظر عن طبيعة تشكيل الحكومة الإسرائيلية اليمينية المقبلة ومكونات ائتلافها الحزبي.