يعد التقدم الأخير في تطوير حقل الغاز البحري في غزة بمثابة أخبار إيجابية ويسلط الضوء على إمكانية التوصل إلى اتفاقيات متبادلة المنفعة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وتأتي موافقة إسرائيل المبدئية على تطوير واستغلال الحقل الفلسطيني نتيجة لجهود الوساطة التي بذلتها مصر والأردن بهدف تهدئة التوترات ومد الجسور بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وتقول الباحثة أنطونيا ديمو في تحليل على موقع “مودرن دبلوماسي” إن فوائد تطوير الحقل الفلسطيني متعددة الجوانب وتتراوح من تعزيز أمن الطاقة في غزة وتوفير مكاسب كبيرة للاقتصاد الفلسطيني إلى تحسين مكانة إسرائيل الإقليمية وجذب الاستثمار لتنفيذ مشاريع البنية التحتية داخل المنطقة.
وكانت العلاقات السياسية المتوترة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والدعم الإسرائيلي المتقطع، والمخاوف من استخدام الإيرادات لتمويل الإرهاب، وانخفاض أسعار الغاز من الأسباب الرئيسية التي أعاقت تطوير مشروع حقل الغاز البحري في غزة الذي يبلغ من العمر 23 عامًا.
وأدت الحرب على أوكرانيا وأزمة الطاقة العالمية اللاحقة، بالإضافة إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، إلى وضع مشروع حقل الغاز البحري في غزة في المقدمة وتسريع جهود الوساطة التي أدت إلى موافقة إسرائيل الأولية على تطويره.
وفي حال التوصل إلى اتفاق نهائي، فمن المتوقع أن يحقق الحقل الذي يحتوي على تريليون قدم مكعب من الغاز إيرادات تبلغ حوالي 2.5 مليار دولار على مدى 15 عامًا.
وتأثرت التصورات العامة في غزة بالتقارير الصحفية حول جهود الوساطة الأميركية للتوصل إلى اتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل بشرط تقديم تنازلات معينة للفلسطينيين.
وعلى وجه التحديد، ترى غالبية الجمهور الفلسطيني في غزة والضفة الغربية أن موافقة الحكومة الإسرائيلية الأكثر يمينية حتى الآن على تطوير حقل الغاز البحري في غزة كانت جزءًا لا يتجزأ من المناقشات الجارية بشأن التطبيع السعودي – الإسرائيلي المرتقب.
ويعكس استطلاع للرأي نشره المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في 13 سبتمبر الجاري، هذا التوجه.
ويعتقد 29 في المئة من الفلسطينيين في غزة أن اتفاق السعودية وإسرائيل لتطبيع العلاقات يمكن أن يحسن فرص التوصل إلى سلام فلسطيني – إسرائيلي.
وبالنظر إلى أن عام 2023 يصادف الذكرى الثلاثين لاتفاقيات أوسلو، فإن سكان غزة ينظرون إليها بشكل أكثر إيجابية من سكان الضفة الغربية. وكما ورد في استطلاع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية، فإن 40 في المئة من سكان غزة يعارضون تخلي السلطة الفلسطينية عن اتفاقيات أوسلو.
وعندما يتعلق الأمر بالتصورات الشعبية الفلسطينية حول تطوير حقل الغاز البحري في غزة، يقال إن هذه التصورات منقسمة بين متفائلين ومتشائمين.
وبحسب المجموعة الأولى، فإن تطوير الحقل سيعطي صدمة إيجابية لاقتصاد غزة من خلال خلق فرص العمل ودفع رواتب موظفي القطاع العام بشكل كامل.
وتقوم السلطة الفلسطينية حاليًا باحتجاز الرواتب الشهرية لموظفي القطاع العام بنسبة 25 في المئة تقريبًا. ويتوقع المتفائلون أيضاً أن تنخفض أسعار الغاز وبالتالي يرفع الكثير من العبء الاقتصادي عن الأسر.
وعلى المستوى السياسي، يرى المتفائلون أن تقدم الاقتصاد الفلسطيني يمكن أن يمهد الطريق للمصالحة الفلسطينية الداخلية بين القادة السياسيين المتنافسين.
ومن ناحية أخرى، يعتقد المتشائمون أن الفوائد الاقتصادية ستكون ضئيلة حيث من المتوقع أن يتم فرض ضريبة على الغاز في غزة من قبل حماس وإسرائيل ومصر في وقت واحد، مما يقلل من احتمالات انخفاض كلفة الطاقة وتحسين الظروف المعيشية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنهم يدعون إلى اتساع الفجوة بين الفصائل الفلسطينية بدلاً من المصالحة. ولتحقيق هذه الغاية، يشير المتشائمون إلى فشل قيادة الفصائل الفلسطينية في تحقيق المصالحة خلال قمة العلمين المصرية الأخيرة.
وكانت مصر في وضع جيد يسمح لها بالتوسط في المفاوضات بين حماس وإسرائيل، في حين استخدم الأردن نفوذه السياسي على السلطة الفلسطينية واستضاف اجتماعاً لضمان استمرار المناقشات بلا هوادة.
وكانت مصر والأردن طرفين ثالثين في اللقاءات الفلسطينية – الإسرائيلية التي عقدت في العقبة وشرم الشيخ، حيث كان تطوير حقل الغاز البحري في غزة في قلب المناقشات، وتم طرح خارطة طريق لخفض التصعيد والتوترات في غزة.
وتقول ديمو إن الفوائد الاقتصادية والإقليمية التي ستحصل عليها مصر من الاتفاق الفلسطيني – الإسرائيلي بشأن تطوير حقل الغاز البحري في غزة كانت أساسية لنجاح الوساطة المصرية.
وعلى الرغم من الطبيعة غير المتغيرة للسلام المصري البارد مع إسرائيل، فقد بدت مصر حاسمة في مساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين على طرح رؤية لإيجاد حلول مشتركة لتحديات وفرص الطاقة مع وجود حقل الغاز البحري في غزة.
وبموجب شروط الاتفاقية الأولية، ستتولى شركة إيجاس المملوكة للدولة المصرية عمليات تطوير حقل الغاز البحري في غزة وتأمين التمويل للمشروع بأكمله. ويشكل التمويل عنصرا حاسما في تطوير المشروع ويتطلب تأمينا ضد المخاطر السياسية بالإضافة إلى ضمانات دفع معينة تقدمها إيجاس في البداية ثم في مرحلة لاحقة من قبل المؤسسات المالية.
وتشمل خطط التنمية والتي من المرجح أن يتم دمجها في حزمة الحوافز الاقتصادية المقدمة لحماس خلال المناقشات مقابل هدنة طويلة الأمد، بناء ميناء جديد لتحسين الظروف المعيشية في غزة.
وتنص هذه الخطط، من بين خيارات أخرى، إما على بناء ميناء مصري في العريش بحيث يتم نقل البضائع إلى غزة عبر معبر كيرم شالوم (كرم أبوسالم) الحدودي عند تقاطع غزة وإسرائيل ومصر، أو بناء ميناء فلسطيني على الضفة الغربية والجزء المصري من الحدود الجنوبية لقطاع غزة.
بموجب شروط الاتفاقية الأولية، ستتولى شركة إيجاس المملوكة للدولة المصرية عمليات تطوير حقل الغاز البحري في غزة وتأمين التمويل للمشروع بأكمله
وينطوي كلا الخيارين على دور مصري رائد يركز على الاستثمار في البنية التحتية الحيوية لدعم اقتصاد غزة.
وعلى المستوى الإقليمي، عززت الوساطة المصرية الناجحة الدور القيادي للقاهرة مع التركيز على الجغرافيا الاقتصادية.
وتسعى مصر إلى تحقيق أهدافها الإستراتيجية في المنطقة من خلال جذب التدفقات الاقتصادية لتعزيز أمنها القومي ومن خلال خلق ترابط اقتصادي يوازن بين المنافسة والتعاون بين المنافسين الجيوسياسيين.
ويندرج تطوير حقل الغاز البحري في غزة ضمن فئة المشاريع التي يمكن أن تعزز الترابط الاقتصادي الإقليمي من خلال التوازن الصحيح بين الاعتبارات الأمنية والتعاون الاقتصادي.
ووفق هذا المنطق الإقليمي، استخدم الأردن الشراكات القائمة لتمهيد الطريق لاستئناف المحادثات الإسرائيلية – الفلسطينية مع التركيز الأولي بشكل ضيق على تطوير المشروع المتعلق بالطاقة في غزة وتمكين السلطة الفلسطينية.
ومن المنتظر أن يستفيد الأردن من تطوير حقل الغاز البحري في غزة والذي يمكن الاستفادة منه لخلق علاقات متبادلة.
ووقعت شركة الكهرباء الوطنية الأردنية المملوكة للدولة (NEPCO) في عام 2015 خطاب نوايا مع المشغل آنذاك لحقل غزة البحري لتوريد حوالي 180 مليون قدم مكعب من الغاز يوميًا من حقل غزة البحري إلى الأردن.
وعلى الرغم من أن خطاب النوايا ليس قابلاً للتنفيذ من الناحية الفنية في هذه المرحلة بسبب عدم وجود شبكة خطوط أنابيب مناسبة، فإن التزام الأردن السياسي خالد.
ويمكن أن يمهد تطوير البنية التحتية الإقليمية للطاقة والنقل الطريق لتعزيز التجارة الرباعية بين الأردن ومصر والفلسطينيين وإسرائيل.
وعلى سبيل المثال، يمكن أن تكون “الرابطة بين المياه والطاقة” في مشروع حيث يمكن استخدام الطاقة الشمسية لتوليد الطاقة، والتي بدورها تعمل على تشغيل محطات تحلية المياه وتوليد مياه الشرب المشتركة، مفيدة بشكل مضاعف.
وبما أن الجمهور الأردني يكره استيراد الغاز الإسرائيلي، فإن تحويله إلى مياه يمكن أن يزيل وصمة العار ليس فقط عن تسهيل التجارة ولكن أيضًا عن تحقيق مكاسب السلام في شكل موارد مشتركة.
وهناك مشروع إضافي يمكن أن يعزز الترابط والتكامل وهو التطوير المقترح لخط حديدي أحادي من شأنه أن يحمل مئات الحاويات يوميًا من ميناء حيفا الإسرائيلي إلى ميناء حديثة البري الأردني، وبالتالي تحسين عمليات التجارة وسلسلة التوريد إلى الفلسطينيين وإسرائيل ودول الخليج.
ومع ذلك، هناك بعض العقبات السياسية التي يجب التغلب عليها مثل الحاجة إلى تحقيق المساواة في الوصول بالنسبة إلى الإسرائيليين والفلسطينيين، وموافقة مصر بسبب التأثير المحتمل للمشروع على حركة المرور في قناة السويس.
وتتمتع محطة الغاز الطبيعي المسال في العقبة بالقدرة على أن تصبح مركزًا إقليميًا ثانيًا للطاقة. ومن بين الخيارات المختلفة، يمكن توجيه الغاز الفلسطيني إلى محطات التسييل المصرية ثم إلى الأردن، حيث يمكن نقله عبر خط أنابيب الغاز العربي إلى سوريا ولبنان.
ومن شأن هذا المخطط أن يساعد في تنويع موردي الطاقة وطرقها في المنطقة. كما من شأنه أن يعزز جهود تنويع مصادر الطاقة في الأردن، والتي تشمل استيراد الغاز بشكل أساسي من مصر، ومواصلة تطوير الحقول المحلية مثل حقل غاز الريشة، وبناء خط أنابيب مزدوج للنفط والغاز من العراق، وتسريع التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة.
وكان التعاون في مجال الطاقة والتنمية الاقتصادية المرتبطة به، إلى جانب الاعتبارات الأمنية، من العناصر الأساسية التي أدت إلى الاتفاق الفلسطيني – الإسرائيلي الأولي بشأن تطوير حقل الغاز البحري في غزة، مع وجود حماس في الفناء الخلفي.
وبالنظر إلى فوائده الاقتصادية والأمنية والدبلوماسية الواعدة لمصر والأردن والفلسطينيين وإسرائيل، فقد أصبح من الواضح أن مشروع تطوير الغاز البحري في غزة يجب أن يتم تنفيذه بسرعة.