طارق فهمي| كاتب وأكاديمي
ما إن وضعت المواجهة الأخيرة بين حركة الجهاد الإسلامي وإسرائيل أوزارها حتى كان السؤال ما الذي يجري داخل حركة الجهاد؟ ولماذا ظهرت الحركة وحدها في مضمار المواجهة مع إسرائيل؟ وهل فعلاً تركت حركة حماس “الجهاد الإسلامي” بمفردها؟ بخاصة أن مرحلة ما قبل المواجهة مع إسرائيل باتت مختلفة تماماً عما هو قائم ومحتمل في إطار علاقات “الجهاد” بالقوى الفلسطينية، سواء على مستوى الفصائل، أو “حماس”، وما يشير إلى أن المواجهة المقبلة مع إسرائيل سيحكمها كثير من التطورات المفصلية والمتعلقة بموقف “الجهاد الإسلامي”، و”حماس” من جانب وسائر القوى الفلسطينية الأخرى.
توترات مستمرة
هناك توتر مشوب بحذر داخل “الجهاد الإسلامي” مرتبط بصنع القرار داخل الحركة، وقد ظهر ذلك جلياً بعد انتخاب زياد النخالة وصعود أدوار البعض الذين كانوا يراقبون المشهد من قرب منذ فترة الراحل رمضان شلح، الذي كان ضابطاً لإيقاع المشهد داخل الحركة لاعتبارات تتعلق بشخصيته التي لم تختلف كثيراً عن شخصية المؤسس، مع الفارق في إدارة الملفات الداخلية وعلاقات “الجهاد” بالنطاق الإقليمي وبإيران على وجه الخصوص.
وقد انعكس ذلك التوتر والتجاذب قبل المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، حيث كان الموقف بين تيارين: الأول يرى الدخول في مواجهة رداً عما جرى في التربص بالقيادات واستئناف سياسة الملاحقات الأمنية والاغتيالات، التي جرت بالفعل في الساعات الأولى من المواجهات، وتغيير سياسة التهدئة التي تعمل بها الحركة في دوائرها السياسية والأمنية، التي استقرت.
والثاني رأى الانتظار والعمل بالتنسيق مع الفصائل الرئيسة وحركة حماس في إطار غرفة المقاومة، ووجود تواصل مستمر داخل القطاع، وإن كان هذا التيار ما زال موجوداً، وقد اتجه إلى تركيز الرؤية بعدم الاستمرار في المواجهة، والاكتفاء بالإنجازات التي تحققت مع العمل على استثمار قراءة المشهد من أن الحركة باتت في المواجهة بمفردها، وأن الدعم الفصائلي لم يعد موجوداً على الأرض، على الرغم من كل ما يسوق إعلامياً وسياسياً في إدارة المواجهة التي استمرت عدة أيام، وحملت كماً كبيراً من التفسيرات الخاصة بالحركة، وأغلبها غير صحيح، ويأتي في إطار حرب المعلومات المضللة التي ارتكنت إليها إسرائيل، وانساق إليها البعض عن عدم علم بمنهجية صنع القرار داخل “الجهاد”.
مواقف محددة
مرجعية ما يجري في الحركة وارتبط بموقفها السياسي والأمني جاء في سياق نتائج الانتخابات التي جرت في “الجهاد” من دون أن تعلن نتائجها على الملأ، مثلما يحدث في “حماس” ويتم الاكتفاء بالإعلان العام عن إجراء الانتخابات وفقط.
وقد أجرت حركة الجهاد الإسلامي انتخاباتها الداخلية لاختيار إطار تنظيمي وقيادي، للمرة الثانية في تاريخها، بانتخاب أعضاء الأقاليم في قطاع غزة في المرحلة الحالية، وجددت الحركة انتخاب خمسة أقاليم في قطاع غزة، عبر انتخاب رئيس وسبعة أعضاء لكل إقليم، كما غيرت الحركة من نظام العملية الانتخابية برمتها، وحددت شروطاً جديدة لمن يسمح لهم بالانتخاب، وكذلك للمرشحين.
المؤكد أن التغييرات الأخيرة كشفت عن توجهات جديدة في مستوى المناصب الوسطى في الحركة وفي الداخل، بخاصة أن الحركة ستبقى، وإن واجهت حالة من الغموض وعدم الإعلان عن المواقف والاتجاهات من قبل، وكانت مدعاة لمزيد من حالة عدم الاستقرار، التي أعقبت استمرار الأمين العام زياد النخالة في موقعه لحين انتخاب مجلس الشورى العام للحركة، ومن ثم انتخاب أعضاء المكتب السياسي من خلال “الشورى العام” وصولاً إلى انتخابات على منصب الأمين العام.
ستجري الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وليس متوقعاً تغيير زياد النخالة، الذي حرص على إحداث حالة من الاستقرار داخل مؤسسات الحركة، وعدم تصعيد بعض التحفظات والملاحظات التي أبدتها قيادات مهمة في الحركة، وتتعلق بإدارة علاقات حركة الجهاد بالفصائل الفلسطينية الأخرى، وبحركة حماس تحديداً وبإيران على وجه الخصوص، وطالت موضوعات متعلقة بالتعامل مع إسرائيل من جانب والسلطة الفلسطينية من جانب آخر، وهو ما أثار إشكاليات متعددة، ارتبطت باستمرار حالة المواجهة مع إسرائيل، بخاصة أن المواقف الأمنية المتصاعدة من جهاز الشاباك هي الدفع بقوة إلى مراجعة مجمل سياسات الحركة، والانتقال إلى المواجهة الأخيرة، لتأكيد عدم التزام “الجهاد” بأية ارتباطات مثلما يجري بالنسبة لحركة حماس باعتبارها المسؤول الأمني الأول عن القطاع، ومن ثم فإن أي قرار لحركة الجهاد سيرتبط بموقف خاص، وليس موقفاً عاماً يخص “حماس” أو التنظيمات الأخرى.
يشار إلى أن انهيار اتفاقات وقف إطلاق النار يأتي بسبب عدم وجود آلية مراقبة دولية لأي اتفاق، ولا قوة خارجية للضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات، وتنفيذ شروط وقف إطلاق النار، ولهذا لا يمكن تأكيد استمرار وقف إطلاق النار في ظل حالة عدم الاستقرار في نابلس وجنين.
تحركات إيرانية
في توقيتات محددة كانت هناك محاولات مرتبطة بـ”الجهاد” و”حماس” معاً ومسعى إيران لجمع الحركتين في منظومة واحدة ودمجهما للعمل معاً، وبالفعل عقدت سلسلة من اللقاءات المشتركة، ولم تفض إلى شيء، بل بالعكس مضت إيران لتزرع حركة “صابرون” في داخل القطاع لمنافسة حركة الجهاد، ولمزيد من إحكام السيطرة على الحركة الرئيسة.
والرسالة أن إيران لا تزال وستظل المرجعية والسند والداعم الأكبر للحركة تمويلاً وعتاداً، وهو ما يؤكد أن موضوع استقلالية قرار حركة الجهاد غائب أو في الأقل غير موجود، ويحتاج إلى مراجعات من قيادات الحركة التي تؤكد في مجمل تناولها لما يجري فلسطينياً بأنها لا تخضع لأحد.
واللافت أن الأمين العام للحركة زياد النخالة خرج يوجه الشكر والتقدير للبنان وإيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية، ولم يوجه الشكر للدولة التي أسهمت في وقف إطلاق النار، وقامت بالتحرك في اتجاه كل الأطراف، والرسالة المهمة التي يمكن الانتهاء إليها في هذا السياق أن الحركة ستواجه بتطورات داخلية وإقليمية نتاج علاقاتها المتشابكة، وأن هذا الأمر سيكون مطروحاً في الفترة المقبلة، وسيعمل في اتجاهات متعددة، ولن يتوقف عند الداخل الفلسطيني، وفي قطاع غزة تحديداً، بخاصة أن هذا الأمر مرتبط بأولويات الحركة ومهامها في الفترة المقبلة ويحتاج إلى مراجعات مهمة.
وعسكرياً فإن حركة الجهاد الإسلامي لا تمتلك عدداً كبيراً من الصواريخ بعيدة المدى، مثل “حماس”، فإنها تمتلك ترسانة كبيرة من الأسلحة الصغيرة وقذائف المورتر والصواريخ المضادة للدبابات وجناحاً عسكرياً يعرف بسرايا القدس.
ويشار إلى أن هناك شخصيات وازنة في الحركة سيكون لها دور مهم في الفترة المقبلة، منهم محمد الهندي رئيس الدائرة السياسية، وأحمد المدلل، وخالد البطش، وخضر حبيب، وهم أعضاء المكتب السياسي في الحركة، إضافة إلى رئيس الجهاز العسكري في “الجهاد” أكرم العجوري، وهو مقرب من الحرس الثوري الإيراني ومقيم في سوريا.
تجاذب مستمر
ستدخل علاقات حركتي الجهاد وحماس مساحات من التجاذب، ليس لأن “حماس” تركت “الجهاد” بمفردها في الواجهة السياسية، إنما لأن حركة حماس وضعت سابقة خطيرة هي أن كل فصيل قد يعمل بمفرده في مواجهة إسرائيل، التي نجحت في فصل “حماس” عن “الجهاد”، ولاحقاً عن كل الفصائل الفلسطينية، الأمر الذي يؤكد أن قواعد التعامل والاشتباك ستتغير داخل القطاع من الآن فصاعداً، وأن الحديث عن داخل واحد يضم الفصائل الفلسطينية غير وارد، وأنه سيواجه سيناريوهات عدة.
ومن ثم فإن الساحة الفلسطينية ستواجه مشاهد عدة في إطار ما سيجري، بخاصة أن قواعد الاشتباك الجديدة ستكون شاملة للجميع، وستكون في دوائر من التفاعلات المهمة، التي يمكن أن تعلن عن نفسها، ومنها تنظيم علاقات “حماس” بإسرائيل، وبموضوعات تثبيت الهدنة، وتثبيت أركانها، والانتقال من مرحلة الحصار إلى مزيد من التسهيلات المنشودة لسكان القطاع وحركة العمالة إلى إسرائيل وغيرها، وهو ما سيسهم في مزيد من الاستقرار السياسي والأمني للطرفين.
إن هذه الملفات وغيرها ستشغل “حماس”، وقد تتعارض مع حركة الجهاد الإسلامي في الفترة المقبلة، بخاصة أن اشتعال الموقف في القدس ومدن الضفة بخاصة في جنين ونابلس ورام الله سيؤدي إلى مزيد من التشابكات الصعبة، التي قد تدفع إلى مزيد من عدم الاستقرار في حال ارتباط الجبهات وتشابكها معاً، وهو ما تتحسب له إسرائيل جيداً في ظل التخوف مما هو قادم، وإن كانت ستراهن على مزيد من الحوافز لـ”حماس” في الفترة المقبلة.
الخلاصات الأخيرة
سنكون أمام عدة سيناريوهات أهمها وأخطر تضرر علاقات “حماس” و”الجهاد” على الرغم من كل التأكيدات بأنه لا تضرر، وأن الأمر سيمضي في سياقه الكبير، مما سيؤكد أن الفصائل الفلسطينية في حاجة إلى توحيد مواقفها، وليس الدخول في مناكفات، بخاصة أن حركة الجهاد ليست عابرة فهي في جوهر المواجهة، ومرتكز رئيس في مواجهة إسرائيل، الأمر الذي يعني أننا أمام سيناريو محدد، بخاصة مع احتمالات المساس بوحدة المقاومة، وكيانها التنسيقي الممثل في غرفة المقاومة الواحدة والعمل المشترك في مواجهة إسرائيل.
والسيناريو الثاني احتمالات ترميم العلاقة بين الحركتين في المدى القصير في حال تجدد المواجهات مع إسرائيل، وهو أمر وارد، وسعي حركة حماس لإعادة اللحمة والتنسيق، وإن كان هذا الأمر سيواجه بفكر الأولويات الكبرى لحركة حماس تجاه إسرائيل وتفضيلها في إدارة المشهد السياسي الحالي على أي اعتبار آخر، مما يعني استمرار حالة التشكك وعدم الثقة في ما سيجري من أولويات مطروحة قد ترتب الخيارات السياسية والأمنية والاستراتيجية معاً، وهناك تصور حقيقي يدفع بهذا الأمر مرتبط بواقعية حركة حماس وفكرها المصلحي، الذي سيسبق أي خيارات أخرى، بدليل ما جرى أخيراً في التعامل مع المشهد الأمني الحالي.
ستظل العلاقات بين حركتي حماس والجهاد منضبطة، ومن المستبعد الدخول في أية مواجهات من أي نوع، لكن الإشكالية الكبرى ستكون مرتبطة بفكر ورؤية كل حركة في مواجهة ما يجري وآليات التعامل الإسرائيلي، ومسعى إسرائيل لاستمرار العمل على فصل “حماس” عن “الجهاد” اعتماداً على أهداف محددة لـ”حماس” في مواجهة كل الأطراف، ووفقاً لكل التقييمات الاستخباراتية في إسرائيل فإن محاصرة وتطويق حركة الجهاد الإسلامي ستبقى على رأس الأولويات المطروحة سياسياً وأمنياً.