رغم أنه يعمل في الحر دون مُكيف هواء بسبب الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي، يمتنع القاضي فيصل مكي عن شرب الماء في وقت العمل، حتى لا يضطر إلى دخول الحمامات الخارجة عن الخدمة في قصر العدل في بيروت.

 

يمتنع القاضي فيصل مكي عن شرب الماء في وقت العمل، حتى لا يضطر إلى دخول الحمامات الخارجة عن الخدمة.

ويقول رئيس دائرة التنفيذ في بيروت القاضي فيصل مكي: “المتطلبات الأساسية الضرورية للإبقاء على القطاع العام فعالاً، لم تعد موجودة”، ويضيف “ليست هناك أوراق، ولا حبر، ولا أقلام، ولا حتى مغلفات، الحمامات لا تعمل، والمياه مقطوعة”.

ومنذ بداية الإنهيار، تتكرر إضرابات موظفي القطاع العام الذين تدهورت رواتبهم بسبب انهيار صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار في السوق السوداء، وآخرها بدأ في منتنصف يوليو(تموز) الماضي، وانضم إليهم القضاة منذ نحو أسبوعين بإعلان إضراب مفتوح في انتظار أن تجد الحكومة حلاً لمشاكلهم المادية.

وفي قصر العدل الذي يأكل العفن والرطوبة جدرانه مع غياب إمكانات صيانة أو تصليح، علِق قضاة في المصاعد بعد الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، ومنهم من تعثّر وسقط على السلالم وسط الظلام، وبينهم قاضية كسرت يدها أخيراً، أما الحمامات فحدّث ولا حرج، المياه مقطوعة عنها منذ فترة.

ويقول مكي: “أحاول ألا أشرب المياه خلال الدوام فلا أضطر إلى الذهاب إلى المنزل أو إلى مكاتب نقابة المحامين المجاورة للدخول إلى الحمام”. كما يضطر القضاة لشراء مستلزمات مكاتبهم من مالهم الخاص، ويتساءل “لا يمكننا حتى شراء حاجاتنا الأساسية، فهل يتوقع منا أيضاً أن ننفق على قصر العدل؟”.

وتتكرر المعاناة ذاتها في كل الوزارات والمؤسسات الرسمية، ففي وزارة الصحة التي عملت بأقصى طاقاتها في السنوات الثلاث الماضية لمواجهة الوباء، يقول أحد مسؤولي الأقسام: “كيف أطلب من موظفة راتبها 1.080 مليون ليرة فقط، أي 33 دولاراً، أن تأتي إلى الدوام؟”.

وعلى غرار آخرين، توقفت كريستين الموظفة منذ 26 عاماً في القطاع العام، عن الذهاب إلى عملها في قائمقامية منطقة المتن شمال شرق بيروت، إذ بات راتبها لا يتخطى 75 دولاراً، بعدما كان يعادل 1600 دولار قبل الأزمة.

وتذهب كريستين مرة واحدة كل أسبوعين إلى وظيفتها حتى لا تُعتبر مستقيلة.

وتقول: “يضطر الموظفون لصعود 7 طوابق على السلالم بسبب انقطاع التيار الكهربائي”، وبالكاد تؤمن مؤسسة كهرباء لبنان، ساعة واحدة فقط من التغذية بالتيار كل 24 ساعة، كما تُقنن المولدات الخاصة إمدادتها بسبب غلاء المازوت.

وتتابع كريستين “ليس هناك تبريد في المكاتب، ولا أوراق ولا أقلام، ولا ماكينات طباعة ويجدر بك أن تحمل زجاجة مياه إلى الحمام بعد استخدامه، لا توجد فيه مياه”، وتشير إلى أنها عرفت دوماً أن الوظيفة في القطاع العام لا تأتي بحياة وردية أصلاً ويستشري فيها الفساد، لكنها كانت تعول على الأقل على الضمان الاجتماعي والمعاش التقاعدي.

ولكن مع تدهور الليرة، فقد المعاش التقاعدي قيمته ولم يعد الضمان قادراً على تغطية نفقات الاستشفاء، وتقول كريستين: “تجسيد الفقر هو الموظف في الدولة اللبنانية”.

وبالطبع، انعكس تدهور مؤسسات الدولة على الخدمات للمواطنين الذين بات يصعب عليهم حتى استخراج إخراجات قيد أو جوازات سفر، إذ ليس هناك حبر أو أوراق كافية.

ويقول موظف في إحدى دوائر النفوس في جنوب لبنان: “نصدر إخراجات القيد بالقطارة”، مشيراً إلى أن متبرعاً قدّم قبل مدة مبلغاً من المال لطباعة أوراق إخراجات القيد التي انقطعت تماماً لفترة.

وعلقت السلطات اللبنانية لأكثر من شهر إصدار جوازات سفر بعدما شارف مخزون الأمن العام من المستلزمات على النفاد، ورغم استئناف إصدارها في يونيو (حزيران) الماضي، ينتظر المواطنون ما قد يصل إلى سنة لحجز موعد لمعاملة جواز السفر.

وبسبب انفجار مرفأ بيروت منذ عامين، طالت الأضرار مؤسسات حكومية عدة بينها كهرباء لبنان، ومقار، وزارات عدة مثل الخارجية، والبيئةن والمالية، ولا يحضر إلى الوزارات سوى عدد قليل من الموظفين.

وفي مرفأ بيروت، يعمل موظفو الجمارك في كرافانات، بدل مبناهم المتضرر، ولم يتمكن موظفو وزارة الخارجية حتى الآن من العودة إلى مكاتبهم، التي استعاضوا عنها بمقر مؤقت آخر.

أما وزارة البيئة، فيعمل موظفوها القلائل تحت ألواح مربعة تتدلى من الأسقف الاصطناعية، ويقول وزير البيئة ناصر ياسين: “الأبواب لا تزال مكسورة ولا يمكن إغلاقها”، مشيراً إلى أن “بعض الغرف تفتقر إلى خدمات أساسية، فلا يوجد فيها حتى لمبات”.

وفي طرابلس، يقف مبنى البلدية الذي أحرقه متظاهرون في العام الماضي احتجاجاً على الأوضاع المعيشية، مثالاً أيضاً على شلل المؤسسات، ويواظب الموظفون على الحضور إلى مبنى جدرانه محترقة ومتصدعة، ويقول رئيس بلدية طرابلس رياض يمق الذي سحبت منه الثقة أخيراً بعد خلافات سياسية: “نحن ذاهبون نحو الأسوأ.. انهيار تام وفوضى عارمة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *