بانتخاب عبد اللطيف رشيد رئيسا جديدا للجمهورية في 13 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، يكون العراق قد غادر حالة انسداد سياسي عاشها منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة عام 2021.
انتخاب الرئيس فتح الأبواب واسعة أمام مرشح قوى تحالف الإطار التنسيقي (شيعي مقرب من إيران) محمد شياع السوداني لتشكيل حكومة “توافقية” جديدة خلال ثلاثين يوما، وفق الدستور.
وفي يونيو/ حزيران الماضي استقال نواب الكتلة الصدرية (شيعية) من البرلمان، إثر عدم تمكنها من تشكيل حكومة “أغلبية وطنية”، ما أنهى محاولات استمرت ثمانية أشهر.
بعدها أصبح الإطار التنسيقي صاحب الأغلبية البرلمانية، لكن التيار الصدري رفض ترشيح السوداني لرئاسة الحكومة، ودعا إلى إجراء انتخابات مبكرة جديدة بعد أخرى أُجريت في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
ولاحقا، أعلن رئيس التيار الصدري مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي “نهائيا”، وحاولت الأجنحة العسكرية للتيار الاستيلاء على مركز الحكم بالمنطقة الخضراء وسط العاصمة بغداد، لكنها فشلت في تحقيق أي نجاحات ميدانية بعد نحو عشرين ساعة من القتال يومي 29 و30 أغسطس/ آب الماضي.
تلك العوامل وغيرها التقت على حقيقة أن أداء التيار الصدري تراجع كثيرا، وأن قدرته على توظيف الشارع السلمي وأجنحته العسكرية في فرض الأمر الواقع ومنع الإطار التنسيقي من تشكيل الحكومة لم تأت بنتائج ضمن سقف توقعات أتباع التيار.
ولا تبدو أي احتمالات لعودة التيار إلى خيار الشارع لإسقاط حكومة السوداني بعد أن استنفد الصدر معظم أوراقه، وأهمها ورقة تحالف “إنقاذ وطن” الذي ضم نواب كتلته ونواب تحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني.
وهذه الورقة كان يمكنه أن يستخدمها من داخل مجلس النواب لحل المجلس والدعوة إلى انتخابات مبكرة، بدلا من دعوة نواب كتلته إلى الاستقالة وخسارتهم حق التصويت وتقديم مشاريع قرارات في المجلس.
كما أن موقف الصدر من الحوار الوطني ووضع شروط تراها القوى الأخرى تعجيزية أو غير عملية جعل التيار يبتعد شيئا فشيئا عن المشهد السياسي، ما ينذر بفقدانه التأثير في رسم مسار النظام السياسي في العراق.
ولا تزال قدرة التيار على تحريك الشارع الورقة الأهم بيده لانتزاع مكاسب من خصومه أو فرض بعض إرادته على القوى السياسية الأخرى، وهي ورقة لم تعد بالتأثير نفسه بعد أن أثبتت عمليات الاقتحام السلمي لمجلس النواب والاقتحام المسلح للمنطقة الخضراء أنها غير مدروسة وأفقدت التيار الكثير من احترامه لدى طيف واسع من المنظومة السياسية والشارع.
ساهم الاحتلال متعدد الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعراق بداية من 2003 في إرساء هيكل سياسي يعتمد التوافقية في تشكيل الحكومة وفق مبدأ المحاصصة في اقتسام السلطة بين جميع القوى الفائزة في الانتخابات من جميع المكونات بحسب نسب التمثيل السكاني لتلك المكونات.
ونظام الأغلبية السياسية أو الأغلبية الوطنية هو الأقرب إلى النموذج الديمقراطي الذي أراد الأمريكيون إرساء أسسه في العراق قبل غزوه واحتلاله.
لكن واقع الانقسامات المجتمعية وغياب المظلة الوطنية الجامعة ومحاولة كل مكون أو طائفة العمل على تعزيز مصالحها وتغليبها على المصلحة الوطنية العليا، دفع الأمريكيين إلى تبني نظام “التوافق السياسي”، أي توزيع السلطة والموارد على المكونات وفق التمثيل السياسي الذي يعكس التمثيل النسبي للمكونات في المجتمع.
ودون جدوى، حاول الصدر جاهدا الانقلاب على النظام السياسي المعمول به منذ غزو العراق.
والتيار الصدري جزء أصيل وأساسي في المنظومة السياسية التي حكمت العراق وشريك في جميع الحكومات التي تشكلت منذ 2003، بما فيها حكومة رئيس الوزراء الحالي للفترة الانتقالية مصطفى الكاظمي، بل إنه يُنظر إليها على أنها حكومة التيار الصدري.
ويرفض الصدر مشاركة أعضاء تياره بأي شكل في حكومة السوداني الذي يعتقد قائد التيار أنه مقرب من خصمه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي (2006-2014).
وهذا الاعتقاد صحيح إلى حد ما، فالسوداني كان عضوا قياديا في حزب الدعوة برئاسة المالكي حتى الاستقالة وتأسيس تيار الفراتين الوطني مطلع 2021، كما شغل مناصب وزراية في حكومتي المالكي الأولى والثانية.
ولا يزال التيار الصدري يحتفظ بمناصب سيادية في مؤسسات الدولة يديرها موظفون من “الدرجات الخاصة” في السلم الوظيفي.
وليس من المؤكد أن الصدر سيأمر بإقالة نحو 300 موظف من المحسوبين على سلم “الدرجات الخاصة”، بينهم وزراء ومحافظون وسفراء ووكلاء وزراء، أو أن هؤلاء سيلتزمون بتعليمات صالح محمد العراقي، المقرّب من الصدر، الذي أجاب عن استفسار حول مطالبة هؤلاء الموظفين بالاستقالة قائلا: “نعم وعلى الفور”.
ومن المؤكد أن نظام التوافق السياسي لن ينهار، وأن محاولات التيار الصدري لتقويضه كانت تفتقر إلى رؤية ناضجة تنطلق من فهم سليم لواقع المجتمع العراقي وتركيبته السكانية.
لذلك فإن معظم الأطراف السياسية وبينها التي شاركت التيار الصدري في تحالف “إنقاذ وطن”، وعموم القوى والكيانات السياسية الأخرى الشيعية والكردية والسنية لا تؤمن بإمكانية تغيير نظام التوافق السياسي.
وهذه الحقيقة جعلت تلك القوى تستسلم لإرادة قوى الإطار التنسيقي التي ساهمت إلى حد كبير في إفشال مسعى التيار الصدري إلى تغيير النظام السياسي بإحلال نظام الأغلبية محل نظام التوافق.
ونجحت القوى الفاعلة في تجاوز معظم الأزمات السياسية التي مر بها العراق بعد 2003، ومن المؤكد أنها ستتجاوز الأزمة الراهنة، فجميع القوى السياسية بما فيها التيار الصدري حريصة على استمرار النظام السياسي قائما لديمومة مكاسبها ومصالحها الحزبية أو المكوناتية، والتي لا تهديد لها أكبر من انهيار النظام.
ومن المهم للقوى السياسية العراقية أنها حققت إنجازا كبيرا في تجنيب العراق الدخول في “حرب داخلية”، بامتناعها عن الانجرار إلى قتال مسلحي التيار الصدري.
ولعل من أبرز تطورات الأزمة هو تشكيل ائتلاف “إدارة الدولة” من قوى الإطار التنسيقي وقوى سياسية أخرى من جميع المكونات والأطراف السياسية وبينها حليفا الصدر وشريكاه تحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني.
وجسّد الإعلان عن هذا الائتلاف حقيقة الحرص على بقاء المنظومة السياسية القائمة كما هي، بما فيها من محاصصة طائفية وعرقية ومؤسسات ينخرها الفساد المالي والإداري وفقدان الدولة جزءا من سيادتها واستقلال قرارها وشيوع السلاح خارج سلطتها وقضايا جوهرية أخرى.