دنيا عبد القادر
في 26 آب/أغسطس الجاري، صرحت «إيريت ليليان» أكبر دبلوماسية إسرائيلية لدى أنقرة حاليًا، بأن عملية إعادة تعيين سفير إسرائيلي لدى أنقرة قد تتم في غضون أسابيع، مؤكدة أن أكبر عقبة قد تواجه عودة العلاقات بين تركيا وإسرائيل هي وجود مكتب لحركة «حماس» في إسطنبول، وأضافت أنه «ليس سرًا أن اسرائيل تتوقع من تركيا إغلاق هذا المكتب وترحيل النشطاء من هنا».
جاء ذلك بعد أن كانت أنقرة وتل أبيب قد طردتا السفيرين في 2018 بسبب موقف تركيا من العدوان الإسرائيلي على مسيرة العودة التي نظمت في قطاع غزة في 30 آذار/مارس من نفس العام، اعتراضا على فتح السفارة الأمريكية في القدس المحتلة، الأمر الذي أدى إلى استشهاد 60 فلسطينيًا على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية.
لا شك أن مثل هذه التصريحات أثارت قلق وحفيظة حركة «حماس» التي يتخذ قادتها من تركيا مقرًا مهمًا لهم. كما أن تلك الدبلوماسية الإسرائيلية لم تكن تجرؤ على قول مثل هذا التصريح إلا إذا كانت تركيا وإسرائيل قد اتفقتا بالفعل على اتخاذ موقف تجاه الحركة، من أجل إتمام عملية التقارب. إن أي تقارب بين تل أبيب وأنقرة سيقابله تراجع كبير بين أنقرة وحماس.
دفعت الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تركيا إلى لجؤها للخروج من عزلتها وتذكيرها بأن مصلحتها الاقتصادية يجب أن تكون في المقدمة أولًا وهو ما جعلها تتخذ خطوات أكثر برجماتية -حتى وإن كان سيتطلب ذلك تبرئة نفسها من مواقف الأمس. لذا فلا عجب من أن نشاهد تركيا وإسرائيل يكشفان عن علاقاتهما القوية، بعد سنوات من السرية والكتمان خاصة وأن وجود رئيس الوزراء الإسرائيلي «يائير لابيد» يمثل فرصة مناسبة بدلًا من نظيره السابق «بنيامين نتنياهو».
حجم التجارة المتبادلة
كشفت وزارة الاقتصاد الإسرائيلية أن حجم التجارة المتبادلة للسلع والخدمات التجارية بين إسرائيل وتركيا بلغ في عام 2021 حوالي 7,7 مليار دولار، أي أن التجارة بينهما في عام 2021 شهدت زيادة بحوالي 30٪ مقارنة بالعام الماضي. واحتلت إسرائيل خلال نيسان/أبريل 2022، المرتبة التاسعة بين الدول الأكثر استيرادًا للمنتجات التركية. وتعتبر تركيا رابع أهم شريك تجاري في الاقتصاد الإسرائيلي وخامس أهم وجهة تصدير في عام 2021، وذلك وفق ما أعلنته وزيرة الاقتصاد والصناعة الإسرائيلية «أورنا باربيفاي».
وكانت قد أعلنت وزارة الاقتصاد الإسرائيلية إعادة فتح المكتب الاقتصادي لوزارة الاقتصاد والصناعة الإسرائيلية في إسطنبول اعتبارًا من الأول من شهر آب/أغسطس الجاري، ومن المقرر أن يؤثر إعادة فتح الملحق الاقتصادي في إسطنبول على حوالي 1,540 شركة إسرائيلية تصدر حاليًا إلى السوق التركية وتساعد في تعزيز عملياتها التجارية داخل هذا السوق، خاصة وأن البلدين اتفاقية تجارة حرة تسهل وصول المصدرين إلى السوق بشكل كبير.
كيف أغرت إسرائيل تركيا اقتصاديًا؟
هناك ملفات اقتصادية مهمة توليهم تركيا اهتمامًا خاصًا، وتعتبر تلك الملفات أحد أبرز الأسباب التي ربما دفعت أنقرة في سعيها للتطبيع الكامل مع إسرائيل، وهم؛
1. إنقاذ الاقتصاد المتأزم:
إنقاذ الاقتصاد المتأزم في ظل تراجع سعر الليرة التركي إلى 18,1718 لكل دولار، ورفع المركزي التركي توقعات لمعدل التضخم بنهاية العام الجاري إلى 60,4%، وسط تحذيرات من تراجع الاحتياطي النقدي، وهو ما يجعل أنقرة في حاجة ملحة لتحسين أوضاعها الاقتصادية من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية.
2. غاز المتوسط
تتوافق مصالح تركيا وإسرائيل في شرق البحر المتوسط، لذا قد يكون من الممكن تحديد مناطق الولاية البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط على أساس المصالح المشتركة وتشغيل الموارد الطبيعية في إطار المشاريع المشتركة، كما سيمكن التوصل في المستقبل إلى توافق جديد في الآراء في شرق البحر الأبيض المتوسط، بحيث يضم جميع الأطراف المعنية بما فيها تركيا وقبرص واليونان ومصر وبلدان أخرى.
وخلال لقاءه مع الرئيس الإسرائيلي «إسحاق هرتسوغ»، في آذار/مارس 2022، أعرب الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» عن استعداده للتعاون مع إسرائيل في مجال الطاقة ومشاريع أمن الطاقة، مع احتمال نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا، وهو المشروع الذي يحظى بأهمية إثر تعثُّر مشروع «إيست ميد» لنقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، خاصة في ظل استمرار الأزمة الأوكرانية التي دفعت الغرب إلى البحث عن بدائل للغاز الروسي إلى أوروبا.
تنطوي الرؤية التركية للتعاون مع إسرائيل في ملف غاز المتوسط على اتجاهين الأول يتمثل بمد خط أنابيب بحرية ينقل الغاز الإسرائيلي من حقل «ليفيثيان» إلى البر التركي، بحيث تشتري تركيا حصة منه للاستخدام المحلي، وتصدر حصة أخرى إلى أوروبا مستفيدة من خطوط أنابيب الغاز العابرة للأناضول الموجودة أصلًا.
أما الاتجاه الثاني؛ فتراهن فيه تركيا على أن مشروعًا لاستهلاك وتصدير الغاز الإسرائيلي عبر أراضيها سيقوي من موقفها من النزاع على الغاز، ولن يتركها وحيدة خارج حلف سياسي وأمني يتشكل في شرق المتوسط في معزل عنها، كما يأمل صانع القرار بأن يؤثر ذلك على موقف القاهرة المتجاهل للرغبة التركية بتوقيع اتفاقية ثنائية لترسيم الحدود البحرية.
3. مقاتلات «إف-16»
تعتقد تركيا أنه يمكن الاعتماد على إسرائيل في إتمام صفقة شراء تركيا مقاتلات «إف-16» الأمريكية وقضايا أخرى من الاستيراد، عبر مساعدة الجماعات الموالية لإسرائيل ومنظمات الدعوة اليهودية في الكونجرس الأمريكي، باعتبار أن العلاقات الأمنية القوية بين إسرائيل وتركيا ستجد دعمًا في واشنطن، بما في ذلك بين الجماعات المؤيدة لإسرائيل وقادة الجالية اليهودية الأمريكية.
أهمية تركيا لـ”حماس”
منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا، في تشرين الثاني/نوفمبر 2002، أصبحت تركيا أحد أبرز الداعمين لحركة «حماس»، وانتقدت أنقرة القرار الأمريكي بإدراج «إسماعيل هنية» رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، على لائحتها السوداء لـ«الإرهابيين»، وباتت تركيا ملاذًا آمنًا لبعض قيادات الحركة والعسكريين، خاصة، بعد سقوط حكم «الإخوان» في مصر عام 2013، وفي ظل اعتبار بعض دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا الحرة بأنها منظمة إرهابية.
وفي شباط/فبراير 2018، اتهمت إسرائيل، مقربين من الحكومة التركية بمساعدة حركة «حماس»، بعد اعتقال وطرد مواطن تركي من إسرائيل، في أعقاب تحقيق أجراه جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي «الشين بيت» عن الأنشطة العسكرية والاقتصادية واسعة النطاق التي تقوم بها «حماس» في تركيا دون أية معوقات، متهمًا السلطات التركية بغض الطرف عنها. بالإضافة إلى كشف تحقيقات «الشين بيت»؛ بأن تركيا تساهم في تعزيز قدرات «حماس» العسكرية عبر شركة «سادات» للاستشارات في الدفاع الدولي، التي أنشأت بتوصية من «عدنان باشا»، وهو مستشار قريب من «أردوغان».
هل تغلق تركيا مكتب “حماس” إرضاءً لإسرائيل؟
في ظل سعي تركيا للبحث عن علاقات جديدة والتراجع عن بعض من مواقفها، يظل تلبية تركيا لمطلب إسرائيل بإغلاق مكتب «حماس» أمرًا واردًا، ويمكن الاستدلال على ذلك في ضوء ما مارسه الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» من ضغوطات على قادة جماعة «الإخوان» ومعارضي النظام المصري وتعليق نشاطاتهم، أثناء مصالحته مع مصر. وقد يظل مكتب «حماس» في إسطنبول ولكن سيكون صوريًا مع ممارسة تضييقات على قادة «حماس» والحد من أنشطتها العسكرية.
لن يكون طرد أنقرة لقادة «حماس» لن تكون خطوة جديدة، ففي عام 2015 كشفت مصادر تركية وإسرائيلية انه تم التوصل إلى اتفاق مبدئي بين تركيا وإسرائيل بشأن تطبيع العلاقات بينهما يتضمن تقييد نشاط الحركة في الأراضي التركية وطرد «صالح العاروري» القيادي في حركة «حماس» من تركيا، وهو الشرط الذي امتثلت إليه تركيا دون اعتراض آنذاك. لذا لا شك أن قادة الحركة يشعرون بالريبة من هذا الأمر، وهو ما قد يفسر اتجاه الحركة لإجراء اتصالات مع النظام السوري؛ أملًا في إعادة تطبيع العلاقات مع «بشار الأسد» بعد قطيعة لنحو 10 سنوات حين انحازت الحركة للمعارضة المدعومة من تركيا بهدف إسقاط «الأسد».
لقد وضعت أنقرة مصالحها الاقتصادية وعلاقتها مع تل أبيب في كفة وعلاقتها مع «حماس» في الكفة الأخرى، ولكن يبدو أن كفة التطبيع هي الأرجح فلن تخاطر تركيا بعلاقاتها الاقتصادية القوية مع إسرائيل، إرضاءً لـ«حماس»، والدليل على ذلك أنه حتى في ظل اشتداد الأزمة السياسية بين تل أبيب وأنقرة إثر حادثة سفينة «مافي مرمرة» عام 2010، لم تنقطع العلاقات الاقتصادية بين الطرفين.
وفي الوقت ذاته لن يعيق تقييد تركيا لـ«حماس» نشاط الحركة كثيرًا، ففي حقيقة الأمر تعتبر «حماس» طرفًا مهمًا في القضية الفلسطينية لا يمكن تجاوزه، واستطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تصبح لاعبًا سياسيًا مؤثرًا في المشهد وفي ظل الدعم الإيراني والقطري للحركة وقطاع غزة ستستطيع الحركة الاستمرار مقابل تراجع صورة «أردوغان» الشعبية التي حاول بلورتها في صورة «خليفة المسلمين».